الفردوس يكتب : من أجل نموذج انتخابي جديد

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
قبل أيام عقد السيد رئيس الحكومة اجتماعا مع قادة الأحزاب السياسية لمناقشة التحضيرات للانتخابات المقبلة، وتعول عدد من الأحزاب السياسية على مواصلة المشاورات في الملف الانتخابي بأبعد من مجرد مناقشة الإعداد الجيد للاستحقاقات الانتخابية لعام 2021، أي طرح إصلاحات سياسية عميقة تشمل بنية المنظومة الانتخابية القائمة، في أفق تعديلها بما ينسجم مع فلسفة وروح التوجه الديموقراطي والحداثي والتنموي لبلادنا، ومع الجيل الجديد من الإصلاحات التي ستشمل نموذجنا التنموي، كما ستشمل عددا من التزامات المغرب لتحسين الأداء السياسي لمؤسساته الديموقراطية.
فبدون طرح المنظومة الانتخابية الحالية على بساط التشريح، انطلاقا مما أفرزته من اختلالات في نتائجها، وما عاكسته من طموحات للتعبئة الجماعية والرغبة المعبر عنها في أكثر من موقف سياسي أو أزمات حكومية لرؤية أغلبية منسجمة وقوية وذات برامج مشتركة ورؤى موحدة ومقتنع بها، وقادرة على الدفاع عنها وتجسيدها في تشريعات وتدبيرات للسياسات العمومية، لا يمكننا أن نتكلم عن نجاح ما في استحقاق انتخابي، خصوصا إذا أفرز هذا الاستحقاق ما هو معلوم للجميع من تشتت كبير للأصوات، وتشرذم للخريطة الحزبية والسياسية تطلبت من الحزب الذي فاز بالرتبة الأولى أن يشكل أغلبيته الحكومية من خليط من أحزاب غير متجانسة، لا على أساس البرامج والقواسم المشتركة ولكن على أساس إحصائي عددي يتطلب في كل منعطف حكومي ترميمه وتعديله أو تحجيمه لتضارب البرامج والاختيارات والرؤى، الأمر الذي أدى إلى أبرز الانحباسات في تاريخ تشكيل الأغلبيات الحكومية في المغرب، حينما عجز رئيس الحكومة الأسبق عن تشكيل أغلبيته من عدد كبير من الأحزاب، وحبس أنفاس البلاد شهورا عديدة، إلى حين استبداله برئيس حكومة جديد من الحزب الأغلبي نفسه، والذي استطاع إخراج الحكومة من “بلوكاج” التشكيل والولادة، دون أن يمنع تناسل “بلوكاجات” أخرى متتابعة، كان أبرزها تعطيل مشاريع قوانين، وظهور منازعات ومناطحات داخل الحكومة سببها الرئيس عدم انسجام مكونات هذه الأغلبية المصطنعة التي أفرزتها الخريطة الانتخابية.
ورغم علم الجميع بمربط الفرس في هذه البلوكاجات والانحباسات، ألا وهو إفرازات المنظومة الانتخابية نفسها، فإنه لا يزال قطاع من الفاعلين السياسيين الحكوميين يتهيبون وضع المنظومة الانتخابية الحالية محل مساءلة ومراجعة، علما أن السلوك الانتخابي المنظم ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق هدف أكبر وأسمى ألا وهو ضمان مشاركة واسعة للهيئة الناخبة في الاختيار الحر والنزيه، وفي الآن نفسه إفراز أغلبية تمثيلية حقيقية وأقطاب سياسية كبرى ذات قواسم وملامح مشتركة وقادرة على تدبير زمنها السياسي بقوة وفعالية ومردودية، وقد سبق لجلالة الملك أن ذكر في مناسبة عيد العرش لعام 2017، بهذا الهدف الأسمى، أو المطلب الحيوي من كل العمليات الانتخابية التشريعية خاصة، حيث حدد جلالته انتظارات الأمة بشأن الاستحقاقات الانتخابية في: ” إفراز مشهد سياسي معقلن وسليم، عماده أغلبية منسجمة، تنبثق عنها حكومة متراصة، حكومة فعالة قائمة على أقطاب محددة متكاملة وناجعة، وفق أولويات السياسة العامة للبلاد، وليس مجرد اعتبارات سياسوية ضيقة، أو حسابات عددية”. فهل حققت انتخابات ما بعد دستور 2011 هذا الطموح النبيل؟ قطعا ستكون الإجابة: “لا”. ليس بعدم شفافية الاقتراع وليس بعدم ضمان نزاهة الانتخابات، وليس بسبب من مشاكل تقنية وجزئية كالتي أريد أن تختزل فيها مبادرة رئيس الحكومة لفتح نقاش حول التحضيرات المطلوبة لإنجاح الاستحقاق الانتخابي المقبل، بل بسبب أعمق من كل ذلك وهو أن المنظومة الانتخابية نفسها تعتريها نقائص لا تسمح لها بأن تحقق هذا المطلب.
فرغم تثميننا لمبادرة رئيس الحكومة إلى عقد اجتماعات في موضوع الانتخابات المقبلة، فإن جدول أعمال هذه الاجتماعات، في حال استكمال عقدها، ينبغي أن يتوسع لتقويم تشخيصي للمعضلة الانتخابية التي كانت وراء البلوكاجات الحادثة في التشكيلات الحكومية كلها بعد إقرار الدستور الجديد، ووراء ما أفرزته من تشتيت للخريطة الانتخابية بما لم يسمح لأغلبية واضحة أو لمعارضة واضحة، بالانبثاق من رحم صناديق الاقتراع ومن تحالفات حقيقية وواضحة.
إن كثيرا من القضايا والإشكاليات المتصلة بالمنظومة الانتخابية، تحتاج منا إلى وقفات لاستعراضها وبيان اختلالاتها وصعوباتها، والعمل على تثمين إيجابياتها، واستثمارها في رصيد الإصلاح من أي جهة صدر، لأن الهدف الخالص من طرح موضوع تعديل أو حتى تغيير المنظومة الانتخابية الحالية، هو استباق تأميننا من الخيبات السياسية نفسها، بالبحث في نقط القوة وتقويتها في المنظومة الانتخابية، ورفع كل ما تبين أنه لم يعد صالحا ولا منسجما مع طموح إنجاح الرهان الانتخابي في كل محطات تفعيله وتنزيله. ويمكن للنظر في هذه الإشكاليات والتداول في شأنها أن يبدأ من بحث آليات ضمان المشاركة القوية للهيئة الناخبة في هذه الاستحقاقات، والقطع مع ظواهر العزوف عن التصويت، ويمر عبر عرض مشاكل أعمق تتصل باللوائح الانتخابية وبنمط الاقتراع نفسه، وبمسائل التمثيلية للنساء والشباب والجالية المغربية بالخارج، والدعم المالي للأحزاب السياسية… وغيرها من الإشكاليات والقضايا الانتخابية التي لا ينبغي التهيب من مساءلة جدواها وآثارها وانعكاساتها على المجتمع وعلى الدولة.
لا بد إذا من خلق دينامية جديدة في العمل السياسي والانتخابي، وإعطاء نفس جديد للحوار الوطني المفتوح حول نموذجنا التنموي الجديد، بتوسيع دائرة تدقيق الالتزامات التنموية للمغرب بالتقابل مع التزاماته السياسية والحقوقية، ولِمَ لا إفراز نموذج انتخابي مغربي جديد يوازي النموذج التنموي الجديد في طموحه إلى تحسين أداء تدبير الشأن العام، بما فيه التدبير السياسي والانتخابي.
لن تكون انتخابات 2021 بأفضل من سابقاتها، من حيث مطلب إفراز أغلبية حقيقية واضحة، ومعارضة حقيقية وواضحة، وأقطاب سياسية متجانسة ومنسجمة كذلك، بسبب من تعذر إفراز هذه الأغلبية وهذه القطبية، في ظل منظومة انتخابية لا تعطي نتيجة تذكر في هذا المجال، بل ترتب على الدوام إكراهات تدفع الحكومة كما المواطنون كلفتها وضريبتها، مما شاهدناه وعشناه جميعا من وضعيات سياسية فقد فيها رئيس الحكومة السيطرة على اندفاعات أغلبيته وتشكيلته الحكومية غير المريحة، بل على أعضاء من حزبه نفسه.
إننا نأمل أن ترقى اللقاءات المنتظرة لرئيس الحكومة مع الأحزاب السياسية لتدارس موضوع الانتخابات، إلى التداول في صلب الموضوع الانتخابي وجوهره وهو جعل المنظومة الانتخابية متوافقة مع الدينامية الإصلاحية للنموذج التنموي الجديد، بل إن إصلاح المنظومة الانتخابية هو في قلب هذه الدينامية.
فعلى الأحزاب السياسية المتطلعة إلى هذا الإصلاح أن تبدي مزيدا من الدفع في اتجاه فتح المشاورات على نموذج انتخابي جديد قادر على إفراز النخب والكفاءات والهيئات الحزبية والأقطاب السياسية المتجانسة بهدف المواكبة والتفعيل الأمثل للنموذج التنموي الجديد.