الفردوس يكتب : صناعة المظلومية ..

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
تسيء كثير من الشكاوى والتظلمات، في وقائع معروضة على القضاء، أو على الرأي العام الوطني، إلى صورة بلادنا في رهانها على دولة المؤسسات والحريات والحق والقانون، وتعصف بكل مكتسباتنا الديموقراطية في تنمية روح المواطنة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإنهاء ثقافة الاستفادة من الريع والامتيازات والاستثناءات أيا كانت طبيعتها المادية أو الرمزية. وذاك أنك لا تجد من تقف القوانين في وجهه، على خطأ ارتكبه أو جرم أحدثه أو مخالفة معرضة للمساءلة، أو محاسبة على إخلال بواجب، يعترف ويقر بمسؤوليته أو يقبل أن يكون موضوعا للمحاسبة والمتابعة. ويكاد هذا السلوك يكون ثقافة عامة وتربية مشتركة منغرسة في الذهنيات والعقليات، حتى لدى أعتى المجرمين، الذين يظلون متمسكين ببراءتهم ومظلوميتهم في ما يعترفون به من جرائم ارتكبوها، فالقاتل مظلوم لأن قتيله كان هو نفسه ينوي قتله، والراسب في اختبار، مُرسب مستهدف في استحقاقه النجاح، والمسؤول الذي فشل في تدبير مسؤولياته، يعلق فشله على جيوب مقاومة تدبيره، وعلى أجندات ومؤامرات داخلية وخارجية سفهت إنجازاته، والمقاول الذي أفلس وأهدر رأس ماله، وتردى بمقاولته، يشكو من مناخ الاستثمار ولوبيات السوق، وقس على ذلك سائر المظلوميات الزائفة في العديد من المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يكون فيها الأفراد والجماعات مسؤولين عن ما يرعونه من نجاحات أو إخفاقات، ويكونون تحت حكم القانون في تعريضهم للتقويم والمساءلة والمحاسبة، وهم إذ يستبشرون بهذه المساءلة، بل يدعون إليها بألسنتهم وشعاراتهم وكأنها موجهة للأغيار والآخرين، يرفضونها حينما يكونون هم موضوعها، ولا يعترفون لا للقوانين ولا للقضاء بحق مساءلتهم أو ترتيب محاكمة لهم.
يبرز خطاب المظلومية الكاذبة والزائفة حينما يؤدي الخاطئ أو المخل أو المجرم دور الضحية، على علم منه بمسؤوليته الشخصية، وعلى دراية منه بحقيقة أدائه وفعله وخطئه، وتأخذه العزة بنفسه وبإثمه، ليطلب لا الصفح والعفو والاعتذار أو إصلاح ما اجترحه، بل ليطلب لنفسه التزكية والاستفادة من ريع الاستثناء من المحاسبة، إما لمنصبه ومكانته، أو لسبق فضله على الناس، أو لاعتقاده أنه فوق القانون وأنه غير مشمول بما يعم الناس من حقوق وواجبات ومسؤوليات، فيسلك إلى ذلك كل السبل التضليلية والدعائية والاستعدائية والاستقوائية لإسقاط تخطئته أو تجريمه، بما في ذلك العودة إلى “التربية على المظلومية” المتفشية في المجتمع ليستمد منها مشاهد التباكي على الحقوق والحريات التي لا يؤمن بها أصلا حينما تتعلق بحقوق وحريات الآخرين التي وقع الاعتداء عليها.
ومناسبة هذا التذكير بتفشي مظاهر الهروب إلى خطاب المظلومية، ما نراه اليوم في مشهدنا السياسي والحقوقي والاجتماعي من ركوب عدد من الذين يواجهون صعوبات في إثبات براءتهم من سوء التدبير والسلوك، أو صعوبات في التملص من جرائمهم، أو صعوبات في الانضباط للقوانين، موجة الشكوى من الظلم والعسف يبلغ أحيانا مداه الأقصى بالطعن في مؤسسات البلاد الأمنية والقضائية، والاستقواء بالخارج وبالمنظمات والهيئات الحقوقية والإنسانية الدولية عن طريق التضليل وخلط الأوراق، حيث تتحول الجرائم والجنح المرتكبة التي يتابع أشخاص بشأنها، أمام القضاء، وفي ظل توفير جميع شروط العدالة والمحاكمة النزيهة، إلى حقوق تعبير وحرية رأي وصحافة وفكر، وتتحول المتابعة على الجنح والجرائم إلى قمع للحريات واستهداف لأصحاب الرأي. ولم يحدث سابقا حتى في السنوات المسماة بـ”سنوات الرصاص” أن كان مثل هذا التسابق المحموم نحو استعداء الدول الأجنبية والمنظمات الخارجية ضد البلاد، وتضليلها بشأن المحاكمات وبشأن دور القضاء، فكثير من كبار ذوي المسؤوليات في الدولة والحكومة والمؤسسات الآن يساريين وإسلاميين وغيرهم ممن شملتهم متابعات قديمة ومحاكمات، لم يكونوا يرون بديلا عن القضاء بكل درجات التقاضي للجوء إليه وطلب إنصافه. فلِم نستغني اليوم، في سياق الانفراج السياسي، عن دولة الحق والقانون التي نراهن عليها في بناء العدالة والديموقراطية وتحصين الحريات وحماية الحقوق وحفظ المكتسبات، كلما تعلق الأمر بشبهة مظلمة، ونطلب لأنفسنا حصانات من أن تطالنا يد المساءلة والمحاسبة؟.
إن أخطر مكروه يمكن أن تصاب به مسيرتنا نحو تعزيز دولة المؤسسات والحق والقانون، هو رفضنا الضمني أن تنطبق على أفراد معينين أو جماعات مخصوصة القوانين التي تسري على الجميع، كما هو شأن العمل بهذه القوانين في جميع الدول الديموقراطية في أنحاء المعمور. لا يوجد مصطلح يمكن أن نسمي به هذا السلوك تجاه دولة الحق والقانون، إلا اصطلاح النفاق الذي يبطن صاحبه خلاف ما يظهره، ويأخذه الاعتداد بشخصه أو بمكانته أو بجماعته إلى الحد الذي يجعل من نفسه مَلاكا مطلقا، لا يسأله قضاء ولا يعاقبه حكم ولا يحقق معه أمن، وحينما يبلغ هذا الاعتداد بأصحاب هذه المظلوميات أو لنقل الامتيازات والاستثناءات، درجة الاستقواء بالأجنبي وتشويه الحقائق أمام الرأي العام الوطني والدولي، واستدراج مؤسسات البلاد إلى مساومات وابتزازات رخيصة، فإنه آنذاك تكون دولة الحق والقانون هي المستهدفة بهذه الانحرافات، وهي المقصودة بالتعطيل، وتكون ثقافة المواطنة الحق هي المرادة بالاستبدال والتغيير، وأن التربية على المظلومية الزائفة والكاذبة هي المطلوبة لتقوم مقام التربية على الحريات والحقوق والواجبات. ومتى خضعت الأمة لهذا النوع من ابتزاز ذوي الأغراض الخاصة لمشاعرها الإنسانية أو الوطنية أو الدينية، فلتعلم أنها تُعرِّض مؤسساتها الدستورية والقانونية التي تحمي بقاءها ووجودها وتضمن ازدهارها وتقدمها وحرياتها وحقوقها للنسف، كما تُعرِّض وعي أجيالها القادمة للتزييف والمسخ.
إن شعار “لا أحد فوق القانون أو يعلو على المحاسبة والمساءلة” يعني من ضمن ما يعنيه القطع مع ثقافة الريع أو الامتيازات والاستثناءات والمحسوبية والزبونية، والتي لا تعني فحسب الريع الاقتصادي أو السياسي، بل طلب الاستفادة كذلك من الريع الحقوقي والريع الديني وريع الشهرة الإعلامية، دون عامة الناس، ذلك الريع الذي يريد بعض المتابَعين في قضايا جنحية وجرائم الأعراض والأموال والدماء، أو بعض من تشير إليهم الأصابع في أخطاء التدبير والتسيير وتَحَمُّل المسؤولية، أن يحولوا الأنظار عنه بصناعة مظلوميات تستدر العطف الإنساني بقناع الحريات والحقوق المفترى عليها.